فصل: فَصْلٌ: ما يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: ما يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَنَقُولُ: الْوِلَايَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ نَوْعَانِ:.
وِلَايَةُ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ، وَوِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
الْأَوَّلِ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَهِيَ نَوْعَانِ أَيْضًا وِلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ، وَوِلَايَةُ شَرِكَةٍ وَهِيَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ.
وَكَذَا نُقُولُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي كَيْفِيَّةِ الشَّرِكَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ-.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ وَالِاسْتِبْدَادِ فَشَرْطُ ثُبُوتِهَا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا كَوْنُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونًا كَبِيرًا أَوْ مَجْنُونَةً كَبِيرَةً سَوَاءً كَانَتْ الصَّغِيرَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَلَا عَلَى الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ وَعَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ: شَرْطُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِبْدَادِ فِي الْغُلَامِ هُوَ الصِّغَرُ وَفِي الْجَارِيَةِ الْبَكَارَةُ، سَوَاءً كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ بَالِغَةً فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عِنْدَهُ عَلَى الثَّيِّبِ سَوَاءً كَانَتْ بَالِغَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا تَدُورُ مَعَ الصِّغَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا فِي الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، وَعِنْدَهُ فِي الصَّغِيرِ كَذَلِكَ، أَمَّا فِي الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا تَدُورُ مَعَ الْبَكَارَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَفِي الْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَةِ تَدُورُ مَعَ الْجُنُونِ وُجُودًا وَعَدَمًا سَوَاءً كَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا أَوْ عَارِضًا بِأَنْ طَرَأَ بَعْدَ الْبُلُوغِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ لَمْ يَجُزْ لِلْمَوْلَى التَّزْوِيجُ.
وَعَلَى هَذَا يُبْتَنَى أَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ لَا يَمْلِكَانِ إنْكَاحَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْلِكَانِهِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ إنْكَاحَ الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا (وَجْهُ)
قَوْلِهِ: أَنَّ الْبِكْرَ وَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً فَلَا تَعْلَمُ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا يَقِفُ عَلَى التَّجْرِبَةِ وَالْمُمَارَسَةِ وَذَلِكَ بِالثِّيَابَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فَالْتَحَقَتْ بِالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَبَقِيَتْ وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ عَلَيْهَا وَلِهَذَا مَلَكَ الْأَبُ قَبْضَ صَدَاقِهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا بِخِلَافِ الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ لِأَنَّهَا عَلِمَتْ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ وَبِالْمُمَارَسَةِ وَمُصَاحَبَةِ الرِّجَالِ فَانْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ عَنْهَا، وَلَنَا أَنَّ الثَّيِّبَ الْبَالِغَةَ لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِرِضَاهَا فَكَذَا الْبِكْرُ الْبَالِغَةُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ.
وَالثَّانِي: طَرِيقُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ أَمَّا طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَهُوَ أَنَّ وِلَايَةَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الصَّغِيرَةِ لِعَجْزِهَا عَنْ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ بِنَفْسِهَا، وَبِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ زَالَ الْعَجْزُ وَثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهَا مَعَ قُدْرَتِهَا حَقِيقَةً عَاجِزَةٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ عَجْزَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ وَالْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةٌ مَسْتُورَةٌ وَالْخُرُوجُ إلَى مَحْفِلِ الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ عَيْبٌ فِي الْعَادَةِ فَكَانَ عَجْزُهَا عَجْزَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا حَقِيقَةٍ فَثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا عَلَى حَسَبِ الْعَجْزِ- وَهِيَ وِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا وِلَايَةَ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ- إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا طَرِيقُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وِلَايَةُ الشَّرِكَةِ لَا وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ فلابد مِنْ الرِّضَا كَمَا فِي الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَإِنَّمَا مَلَكَ الْأَبُ قَبْضَ صَدَاقِهَا لِوُجُودِ الرِّضَا بِذَلِكَ مِنْهَا دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْأَبَ يَضُمُّ إلَى الصَّدَاقِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ وَيُجَهَّزُ بِنْتَه الْبِكْرَ حَتَّى لَوْ نَهَتْهُ عَنْ الْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ بِخِلَافِ الثَّيِّبِ فَإِنَّ الْعَادَةَ مَا جَرَتْ بِتَكْرَارِ الْجِهَازِ، وَإِذَا كَانَ الرِّضَا فِي نِكَاحِ الْبَالِغَةِ شَرْطَ الْجَوَازِ فَإِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا تَوَقَّفَ التَّزْوِيجُ عَلَى رِضَاهَا فَإِنْ رَضِيَتْ جَازَ وَإِنْ رَدَّتْ بَطَلَ ثُمَّ إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَرِضَاهَا يُعْرَفُ بِالْقَوْلِ تَارَةً وَبِالْفِعْلِ أُخْرَى أَمَّا الْقَوْلُ: فَهُوَ التَّنْصِيصُ عَلَى الرِّضَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ نَحْوَ أَنْ تَقُولَ: رَضِيت أَوْ أَجَزْت وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْبَالِغَةُ.
وَأَمَّا الْفِعْلُ: فَنَحْوُ التَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الرِّضَا وَالرِّضَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ مَرَّةً وَبِالدَّلِيلِ أُخْرَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَالَ لِبَرِيرَةَ إنْ وَطِئَك زَوْجُك فَلَا خِيَارَ لَك» وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَإِنَّ رِضَاهَا يُعْرَفُ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقِينَ وَبِثَالِثٍ وَهُوَ السُّكُوتُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتُهَا رِضًا.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَيَحْتَمِلُ السَّخَطَ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلُ الرِّضَا مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ دَلِيلًا إذَا كَانَ الْمُزَوِّجُ أَجْنَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَرُوِيَ سُكُوتُهَا رِضَاهَا وَرُوِيَ سُكُوتُهَا إقْرَارُهَا وَكُلُّ ذَلِكَ نَصٌّ فِي الْبَابِ.
وَرُوِيَ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ» وَهَذَا أَيْضًا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي عَنْ النُّطْقِ بِالْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ رَغْبَتِهَا فِي الرِّجَالِ فَتُنْسَبُ إلَى الْوَقَاحَةِ فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ سُكُوتُهَا إذْنًا وَرِضًا بِالنِّكَاحِ دَلَالَةً وَشُرِطَ اسْتِنْطَاقُهَا وَأَنَّهَا لَا تَنْطِقُ عَادَةً لَفَاتَتْ عَلَيْهَا مَصَالِحُ النِّكَاحِ مَعَ حَاجَتِهَا إلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَوْلُهُ: السُّكُوتُ يَحْتَمِلُ مُسَلِّمٌ لَكِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الرِّضَا عَلَى جَانِبِ السَّخَطِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً لَرَدَّتْ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ تَسْتَحِي عَنْ الْإِذْنِ فَلَا تَسْتَحِي عَنْ الرَّدِّ فَلَمَّا سَكَتَتْ وَلَمْ تَرُدَّ دَلَّ أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهَا أَجْنَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ازْدَادَ احْتِمَالُ السَّخَطِ لِأَنَّهَا يُحْتَمَلُ أَنَّهَا سَكَتَتْ عَنْ جَوَابِهِ مَعَ أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى الرَّدِّ تَحْقِيرًا لَهُ وَعَدَمَ الْمُبَالَاةِ بِكَلَامِهِ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ، فَبَطَلَ رُجْحَانُ دَلِيلِ الرِّضَا وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَحِي مِنْ الْأَوْلِيَاءِ لَا مِنْ الْأَجَانِبِ، وَالْأَبْعَدُ عِنْدَ قِيَامِ الْأَقْرَبِ وَحُضُورِهِ أَجْنَبِيٌّ فَكَانَتْ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ كَالثَّيِّبِ؛ فلابد مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمُزَوِّجَ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ الْأَبْعَدَ كَانَ جَوَازُ النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ الْوَكَالَةِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْوِلَايَةِ لِانْعِدَامِهَا، وَالْوَكَالَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَإِذَا كَانَ وَلِيًّا فَالْجَوَازُ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى الْقَوْلِ وَلَوْ بَلَغَهَا النِّكَاحُ فَضَحِكَتْ كَانَ إجَازَةً لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَضْحَكُ مِمَّا يَسُرُّهُ، فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا وَلَوْ بَكَتْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ إجَازَةً وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً بَلْ يَكُونُ رَدًّا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْبُكَاءَ قَدْ يَكُونُ لِلْحُزْنِ وَقَدْ يَكُونُ لِشِدَّةِ الْفَرَحِ فَلَا يُجْعَلُ رَدًّا وَلَا إجَازَةً لِلتَّعَارُضِ فَصَارَ كَأَنَّهَا سَكَتَتْ فَكَانَ رِضًا.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبُكَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ حُزْنٍ عَادَةً فَكَانَ دَلِيلَ السَّخَطِ وَالْكَرَاهَةِ لَا دَلِيلَ الْإِذْنِ وَالْإِجَازَةِ.
وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ كُلٌّ مِنْهُمَا رَجُلًا فَبَلَغَهَا ذَلِكَ فَإِنْ أَجَازَتْ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ جَازَ الَّذِي أَجَازَتْهُ وَبَطَلَ الْآخَرُ وَإِنْ أَجَازَتْهُمَا بَطَلَا لِأَنَّ الْإِجَازَةَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ كَأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجَيْنِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَذَا هَذَا، وَإِنْ سَكَتَتْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ رَدًّا وَلَا إجَازَةً حَتَّى تُجِيزَ أَحَدَهُمَا بِالْقَوْلِ أَوْ بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا إذَا سَكَتَتْ بَطَلَ الْعَقْدَانِ جَمِيعًا.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السُّكُوتَ مِنْ الْبِكْرِ كَالْإِجَازَةِ فَكَأَنَّهَا أَجَازَتْ الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا السُّكُوتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إجَازَةً لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ إجَازَةً فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ إجَازَةً لِلْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ إجَازَةً لِأَحَدِهِمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا مُمْتَنِعٌ فَامْتَنَعَتْ إجَازَتُهُمَا وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ بِأَوْلَى بِالْإِجَازَةِ مِنْ الْآخَرِ، فَالْتَحَقَ السُّكُوتُ بِالْعَدَمِ وَوَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى الْإِجَازَةِ بِقَوْلٍ أَوْ بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ لِأَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُؤْمِرَتْ الْبِكْرُ فَسَكَتَتْ فِي الِابْتِدَاءِ فَهُوَ إذْنٌ إذَا كَانَ الْمُسْتَأْذِنُ وَلِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا وَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا خُطِبَ إحْدَى بَنَاتِهِ دَنَا مِنْ خِدْرِهَا وَقَالَ إنَّ فُلَانًا يَذْكُرُ فُلَانَةَ ثُمَّ يُزَوِّجُهَا فَدَلَّ أَنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ إذْنٌ دَلَالَةً وَقَالُوا فِي الْوَلِيِّ إذَا قَالَ لِلْبِكْرِ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَك فُلَانًا فَقَالَتْ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إذْنًا وَلَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ أَخْبَرَهَا فَقَالَتْ قَدْ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ كَانَ إجَازَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إظْهَارُ عَدَمِ الرِّضَا بِالتَّزْوِيجِ مِنْ فُلَانٍ وَقَوْلَهَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَبُولٌ أَوْ سُكُوتٌ عَنْ الرَّدِّ وَسُكُوتُ الْبِكْرِ عَنْ الرَّدِّ يَكُونُ رِضًا وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ فَسَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ رِضًا كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَوْ قَالَ: أُزَوِّجُكِ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا حَتَّى عَدَّ جَمَاعَةً فَسَكَتَتْ فَمِنْ أَيِّهِمْ زَوَّجَهَا جَازَ وَلَوْ سَمَّى لَهَا الْجَمَاعَةَ مُجَمِّلًا بِأَنْ قَالَ أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَك مِنْ جِيرَانِي أَوْ مِنْ بَنِي عَمِّي فَسَكَتَتْ فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَهُوَ رِضًا وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَمْ يَكُنْ رِضًا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ يُعْلَمُونَ فَيَتَعَلَّقُ الرِّضَا بِهِمْ وَإِذَا لَمْ يُحْصَوْا لَمْ يُعْلَمُوا فَلَا يُتَصَوَّرُ الرِّضَا؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ مُحَالٌ- وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ-.
وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا سَمَّى الزَّوْجَ وَلَمْ يُسَمِّ الْمَهْرَ أَنَّهُ كَمْ هُوَ فَسَكَتَتْ فَسُكُوتُهَا لَا يَكُونُ رِضًا لِأَنَّ تَمَامَ الرِّضَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِذِكْرِ الزَّوْجِ وَالْمَهْرِ، ثُمَّ الْإِجَازَةُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ وَإِذَا زَوَّجَ الثَّيِّبَ الْبَالِغَةَ وَلِيٌّ فَقَالَتْ: لَمْ أَرْضَ وَلَمْ آذَنْ.
وَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ أَذِنَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا حُدُوثَ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ- وَهُوَ الْإِذْنُ وَالرِّضَا- وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا.
(وَأَمَّا) الْبِكْرُ إذَا تَزَوَّجَتْ فَقَالَ الزَّوْجُ بَلَغَك الْعَقْدُ فَسَكَتَ فَقَالَتْ رَدَدْت فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي أَمْرًا حَادِثًا وَهُوَ الرَّدُّ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ الْقَوْلَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُدَّعِيَةً ظَاهِرًا فَهِيَ مُنْكِرَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا جَوَازَ الْعَقْدِ بِالسُّكُوتِ وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا كَالْمُودَعِ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِرَدٍّ ظَاهِرٍ لِكَوْنِهِ مُنْكِرًا لِلضَّمَانِ حَقِيقَةً كَذَا هَذَا ثُمَّ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ لَا يَمِينَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهَا الْيَمِينُ وَهُوَ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْمَعْرُوفَ لَا يَجْرِي فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي، وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ثُمَّ إذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ وَالثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى جُعِلَ السُّكُوتُ رِضًا مِنْ الْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ وَلِلْأَبِ وِلَايَةُ قَبْضِ صَدَاقِ الْبِكْرِ بِغَيْرِ إذْنِهَا إلَّا إذَا نَهَتْهُ نَصًّا وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ قَبْضِ مَهْرِ الثَّيِّبِ إلَّا بِإِذْنِهَا فلابد مِنْ مَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَكَارَةِ بَقَاءُ الْعُذْرَةِ وَحَقِيقَةَ الثِّيَابَةِ زَوَالُ الْعُذْرَةِ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِوَثْبَةٍ أَوْ طَفْرَةٍ أَوْ حَيْضَةٍ أَوْ طُولِ التَّعْنِيسِ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْأَبْكَارِ تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ مَنْ زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِوَطْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ- وَهُوَ الْوَطْءُ بِعَقْدٍ جَائِزٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ عَقْدٍ وَجَبَ لَهَا مَهْرٌ بِذَلِكَ الْوَطْءِ- أَنَّهَا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الثَّيِّبِ.
(وَأَمَّا) إذَا زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِالزِّنَا فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الثَّيِّبِ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا» وَهَذِهِ ثَيِّبٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الثَّيِّبَ حَقِيقَةً مَنْ زَالَتْ عُذْرَتُهَا وَهَذِهِ كَذَلِكَ فَيَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الثَّيِّبِ وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا نَصًّا فَلَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عِلَّةَ وَضْعِ النُّطْقِ شَرْعًا وَإِقَامَةَ السُّكُوتِ مَقَامَهُ فِي الْبِكْرِ هُوَ الْحَيَاءُ وَقَدْ وُجِدَ وَدَلَالَةُ أَنَّ الْعِلَّةَ مَا قُلْنَا إشَارَةُ النَّصِّ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْنُهَا صُمَاتُهَا» فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْنُهَا صُمَاتُهَا خَرَجَ جَوَابًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي أَيْ عَنْ الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ نُطْقًا وَالْجَوَابُ بِمُقْتَضَى إعَادَةِ السُّؤَالِ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يَتِمُّ بِدُونِ السُّؤَالِ كَأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَتْ الْبِكْرُ تَسْتَحِي عَنْ الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ نُطْقًا فَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْحَيَاءَ عِلَّةُ وَضْعِ النُّطْقِ، وَقِيَامُ الصُّمَاتِ مَقَامَ الْإِذْنِ عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ، وَعِلَّةُ النَّصِّ لَا تَتَقَيَّدُ بِمَحِلِّ النَّصِّ كَالطَّوَافِ فِي الْهِرَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْحَيَاءَ فِي الْبِكْرِ مَانِعٌ مِنْ النُّطْقِ بِصَرِيحِ الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ رَغْبَتِهَا فِي الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبُ الْوَطْءِ وَالنَّاسُ يَسْتَقْبِحُونَ ذَلِكَ مِنْهَا وَيَذِمُّونَهَا وَيَنْسُبُونَهَا إلَى الْوَقَاحَةِ وَذَلِكَ مَانِعٌ لَهَا مِنْ النُّطْقِ بِالْإِذْنِ الصَّرِيحِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى النِّكَاحِ فَلَوْ شُرِطَ اسْتِنْطَاقُهَا وَهِيَ لَا تَنْطِقُ عَادَةً لَفَاتَ عَلَيْهَا النِّكَاحُ مَعَ حَاجَتِهَا إلَيْهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَالْحَيَاءُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ هَذِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ زَوَالَ بَكَارَتِهَا لَمْ تَظْهَرْ لِلنَّاسِ فَيَسْتَقْبِحُونَ مِنْهَا الْإِذْنَ بِالنِّكَاحِ صَرِيحًا وَيَعُدُّونَهُ مِنْ بَابِ الْوَقَاحَةِ وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ مَا لَمْ يُوجَدْ النِّكَاحُ وَيَشْتَهِرُ الزِّنَا فَحِينَئِذٍ لَا يُسْتَقْبَحُ الْإِظْهَارُ بِالْإِذْنِ وَلَا يُعَدُّ عَيْبًا بَلْ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْإِذْنِ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ يَعُدُّ رُعُونَةً مِنْهَا لِحُصُولِ الْعِلْمِ لِلنَّاسِ بِظُهُورِ رَغْبَتِهَا فِي الرِّجَالِ.
(وَأَمَّا الْحَدِيثُ) فَالْمُرَادُ مِنْهُ الثَّيِّبُ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ وَلِهَذَا لَمْ تَدْخُلْ الْبِكْرُ الَّتِي زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِالطَّفْرَةِ وَالْوَثْبَةِ وَالْحَيْضَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حَقِيقَةً- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إنْكَاحُ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهَا لِلْحَالِ، وَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِإِذْنِهَا صَرِيحًا لَا بِالسُّكُوتِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَالْيَتِيمَةُ اسْمٌ لِلصَّغِيرَةِ فِي اللُّغَةِ وَلِأَنَّ الثِّيَابَةَ دَلِيلُ الْعِلْمِ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ حُدُوثَهَا يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ عَادَةً وَقَدْ حَصَلَ لَهَا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْمُمَارَسَةِ وَهَذَا إنْ لَمْ يَصْلُحْ لِإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لَهَا يَصْلُحْ دَافِعًا وِلَايَةَ الْوَلِيِّ عَنْهَا لِلْحَالِ وَالتَّأْخِيرِ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ بِخِلَافِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ دَلِيلُ الْجَهْلِ بِمَنَافِعِ النِّكَاحِ وَمَضَارِّهِ فَالْتَحَقَ عَقْلُهَا بِالْعَدَمِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ ضَرَرٌ قَطْعًا لِمَا نَذْكُرُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فَلَا مَصْلَحَةَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ يَقِفُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَالْجَوَازُ فِي الْبِكْرِ ثَبَتَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وَالْأَيِّمُ اسْمٌ لِأُنْثَى لَا زَوْجَ لَهَا كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَامًّا إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ زَوَالِ الْبَكَارَةِ لِوُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ- وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْكَامِلَةُ وَالشَّفَقَةُ الْوَافِرَةُ- وَوُجُودِ شَرْطِ الثُّبُوتِ وَهِيَ حَاجَةُ الصَّغِيرَةِ إلَى النِّكَاحِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصَالِحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَعَجْزِهَا عَنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا وَقُدْرَة الْوَلِيِّ عَلَيْهِ وَالْعَارِضُ لَيْسَ إلَّا الثِّيَابَةُ وَأَثَرَهَا فِي زِيَادَةِ الْحَاجَةِ إلَى الْإِنْكَاحِ لِأَنَّهَا مَارَسَتْ الرِّجَالِ وَصَحِبَتْهُمْ وَلِلصُّحْبَةِ أَثَرٌ فِي الْمَيْلِ إلَى مَنْ تُعَاشِرُهُ مُعَاشَرَةً جَمِيلَةً فَلَمَّا ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَلَأَنْ تَبْقَى عَلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَوْلَى وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ الْبَالِغَةُ لِمَا مَرَّ.
وَالْمَجْنُونُ الْكَبِيرُ وَالْمَجْنُونَةُ الْكَبِيرَةُ تُزَوَّجُ كَمَا يُزَوَّجُ الصَّغِيرُ وَالصَّغِيرَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَصْلِيًّا كَانَ الْجُنُونُ أَوْ طَارِئًا بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَقَالَ زُفَرُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَجْنُونَ جُنُونًا طَارِئًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ قَدْ زَالَتْ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ فَلَا تَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرَيَانِ الْجُنُونِ، كَمَا لَوْ بَلَغَ مُغْمًى عَلَيْهِ ثُمَّ زَالَ الْإِغْمَاءُ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ وَشَرْطُهُ وَهُوَ عَجْزُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ حَاجَتُهُ، وَفِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ فَائِدَةٌ فَثَبَتَتْ وَلِهَذَا ثَبَتَتْ فِي الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ كَذَا فِي الطَّارِئِ وَتَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَذَا فِي نَفْسِهِ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-.

.فَصْلٌ: ما يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّصَرُّفِ:

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ: أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ نَافِعًا فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لَا ضَارًّا فِي حَقِّهِ، فَلَيْسَ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْجَدِّ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ حُرَّةً وَلَا أَمَةً لِغَيْرِهِمَا لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ ضَارٌّ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ يَتَعَلَّقَانِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ فِي مُقَابَلَتِهِ وَالْإِضْرَارُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالتَّبَرُّعَاتِ.
وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَلَى غَيْرِهِ بِالْإِذْنِ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ الْعَبْدِ كَالْمُكَاتَبِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ لِهَؤُلَاءِ مُقَيَّدٌ بِالنَّظَرِ.
وَأَمَّا تَزْوِيجُ الْأَمَةِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا لِغَيْرِهِمَا فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْوَصِيُّ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُفَاوَضُ وَالْقَاضِي وَأَمِينُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ لِكَوْنِهِ تَحْصِيلَ مَالٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ مَالٌ فَيَمْلِكُهُ هَؤُلَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ مَعَ أَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَهَذَا أَوْلَى فَأَمَّا شَرِيكُ الْعِنَانِ وَالْمُضَارِبُ وَالْمَأْذُونُ فَلَا يَمْلِكُونَ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَمْلِكُونَ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ مَالٌ فَيَمْلِكُونَهُ كَشَرِيكِ الْمُفَاوَضَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ يَخْتَصُّ بِالتِّجَارَةِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَأْذُونَةَ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ تِجَارَةً لَمَلَكَتْ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ تِجَارَةً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ، بِخِلَافِ الْمُفَاوَضِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّفْعِ لَا بِالتِّجَارَةِ وَهَذَا نَافِعٌ.
وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِ ابْنِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ الصَّغِيرِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْأَبِ فَكَانَ الْأَبُ فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَاحْتِمَالُ الضَّرَرِ ثَابِتٌ لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَ الْأَمَةَ فَيَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الصَّغِيرُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ زَوَّجَهُ أَمَةَ الْغَيْرِ.
(وَلَنَا) أَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ مَوْجُودٌ فَلَا يَمْتَنِعُ الثُّبُوتُ إلَّا لِمَكَانِ الضَّرَرِ وَهَذَا نَفْعٌ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ لَهُ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَكَانَ نَفْعًا مَحْضًا فَيَمْلِكُهُ قَوْلُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَبِيعَهُ قُلْنَا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْوِلَايَةِ الْمُحَقِّقَةِ لِلْحَالِ لِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ الصَّغِيرَةَ مِنْ كُفْءٍ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ.
وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ.
وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَلَوْ فَعَلَ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا لَا يَجُوزُ فِي قَوْلَيْهِمَا جَمِيعًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ تَثْبُتُ نَظَرًا فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَلَا نَظَرَ فِي الْحَطِّ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ فِي إنْكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَلَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ فِي إنْكَاحِ الصَّغِيرِ بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ بِهِمَا.
وَالْإِضْرَارُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَوَّجَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا كَانَ أَضْعَافَ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْأَبَ وَافِرُ الشَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهِ يَنْظُرُ لَهُ مَا لَا يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِتَوْفِيرِ مَقْصُودٍ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ هُوَ أَنْفَعُ وَأَجْدَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَالِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ، وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ، وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ بِالنِّكَاحِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ لَا ضَرَرًا بِهِمَا بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الضَّرَرِ فِي تَصَرُّفِهِمَا ظَاهِرٌ وَلَيْسَ ثَمَّةَ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْبَاطِنَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى الضَّرَرِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِوُفُورِ الشَّفَقَةِ وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْأَبُ أَمَةً لَهُمَا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ هُوَ الْوُصُولُ إلَى الْعِوَضِ الْمَالِيِّ وَلَمْ يُوجَدْ.
وَبِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُمَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُمَا فِيمَا يَحْصُلُ لِلْأَمَةِ مِنْ حَظِّ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُمَا فِي حُصُولِ عِوَضِ بُضْعِ الْأَمَةِ لَهُمَا- وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ- وَلَمْ يَحْصُلْ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِأَنْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا مِقْدَارُ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ أَوْ وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا بِأَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ رَجُلٍ فَزَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَعَلَى هَذَا الْوَكِيلُ بِالتَّزْوِيجِ مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ إذَا زَوَّجَ الْمُوَكِّلَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لَهُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ وَنَذْكُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ- وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ بِالتَّزْوِيجِ إذَا زَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَلِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ مِنْ جَانِبِ النِّسَاءِ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَتُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ مِنْ جَانِبَيْنِ عِنْدَهُمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لِمَكَانِ الْعُرْفِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا نَذْكُرُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ- وَلَوْ أَقَرَّ الْأَبُ عَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِالنِّكَاحِ أَوْ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى نَفْسِ النِّكَاحِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدَّعِيَ امْرَأَةٌ نِكَاحَ الصَّغِيرِ أَوْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ نِكَاحَ الصَّغِيرَةِ وَالْأَبُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى إقْرَارِ الْأَبِ بِالنِّكَاحِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى نَفْسِ الْعَقْدِ.
وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ وَيَظْهَرُ النِّكَاحُ.
وَالثَّانِي أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ نِكَاحَ الصَّغِيرَةِ أَوْ امْرَأَةٌ نِكَاحَ الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِمَا وَهُمَا مُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْأَبِ بِالنِّكَاحِ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ، إذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ أَوْ عَلَى مُوَكِّلَتِهِ بِالنِّكَاحِ، وَالْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ عَلَى عَبْدِهِ بِالنِّكَاحِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ عَلَى أَمَتِهِ بِالنِّكَاحِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إنْ أَقَرَّ بِعَقْدٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُصَدَّقُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِتَزْوِيجِ أَمَتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقَرَّ بِعَقْدٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ النِّكَاحِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا مَلَكَ إنْشَاءَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي الْإِقْرَارِ فَيُصَدَّقُ كَالْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ بِالْفَيْءِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، وَزَوْجِ الْمُعْتَدَّةِ إذَا قَالَ فِي الْعِدَّةِ رَاجَعْتُك لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» نَفَى النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الِانْعِقَادِ وَالظُّهُورِ بَلْ الْحَمْلُ عَلَى الظُّهُورِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ اسْمِ الشَّاهِدِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِفَاعِلِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُؤَدِّي لَهَا، وَالْحَاجَةُ إلَى الْأَدَاءِ عِنْدَ الظُّهُورِ لَا عِنْدَ الِانْعِقَادِ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى الْغَيْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ بِعَقْدٍ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ وَبِشَهَادَةِ الْآخَرِينَ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِمُسَاعِدَةِ آخَرِينَ قِيَاسًا عَلَى الْوُكَلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ وَالْإِقْرَارُ بِالنِّكَاحِ إقْرَارٌ بِمَنَافِعِ الْبُضْعِ وَإِنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا لَا لِلْأَبِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مَمْلُوكَةٌ فَكَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا بِمَا مَلَكَ فَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ وِلَايَةَ الْعَقْدِ وَمِلْكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُمَا اعْتَبَرَا وِلَايَةَ الْعَقْدِ فَقَطْ- وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ-.